كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المبرد: موقع هاهنا مصدر، فهو يصلح للواحد والجمع.
ثم أخبر سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه، فقال: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} هذه الجملة معترضة بين المقسم به، والمقسم عليه، وقوله: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} جملة معترضة بين جزأي الجملة المعترضة، فهو اعتراض في اعتراض.
قال الفراء، والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن، والضمير في {إنه} على القسم الذي يدل عليه أقسم، والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون.
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ} أي: كرّمه الله وأعزّه، ورفع قدره على جميع الكتب، وكرّمه عن أن يكون سحرًا أو كهانة أو كذبًا، وقيل: إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق ومعالي الأمور، وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه.
وحكى الواحدي عن أهل المعاني أن وصف القرآن بالكريم لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدّي إلى الحق في الدين.
قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
{فِى كتاب مَّكْنُونٍ} أي: مستور مصون، وقيل: محفوظ عن الباطل، وهو اللوح المحفوظ قاله جماعة، وقيل: هو كتاب.
وقال عكرمة: هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، ومن ينزل عليه، وقال السديّ: هو الزبور.
وقال مجاهد، وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون، أي: لا يمس الكتاب المكنون إلاّ المطهرون، وهم الملائكة وقيل: هم الملائكة والرسل من بني آدم، ومعنى {لاَّ يَمَسُّهُ}: المسّ الحقيقي، وقيل: معناه لا ينزل به إلاّ المطهرون، وقيل: معناه لا يقرؤه، وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن، فقيل: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} من الأحداث والأنجاس.
كذا قال قتادة، وغيره: وقال الكلبي: المطهرون من الشرك.
وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا.
وقال محمد بن الفضل وغيره: معنى {لاَّ يَمَسُّهُ}: لا يقرؤه إلاّ المطهرون، أي: إلاّ الموحدون.
وقال الفراء: لا يجد نفعه وبركته إلاّ المطهرون، أي: المؤمنون.
وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلاّ من طهره الله من الشرك والنفاق.
وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مسّ المصحف، وبه قال عليّ، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعطاء، والزهري، والنخعي، والحكم، وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك، والشافعي.
وروي عن ابن عباس، والشعبي، وجماعة منهم أبو حنيفة، أنه يجوز للمحدث مسه، وقد أوضحنا ما هو الحق في هذا في شرحنا للمنتقي، فليرجع إليه.
قرأ الجمهور: {المطهرون} بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول.
وقرأ سلمان الفارسي بكسر الهاء على أنه اسم فاعل، أي: المطهرون أنفسهم.
وقرأ نافع، وابن عمر في رواية عنهما، عيسى بن عمر بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة، اسم مفعول من أطهر، وقرأ الحسن، وزيد بن عليّ، وعبد الله بن عوف بتشديد الطاء وكسر الهاء، وأصله المتطهرون {تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} قرأ الجمهور بالرفع، وقرئ بالنصب، فالرفع على أنه صفة أخرى لقرآن، أو خبر مبتدأ محذوف، والنصب على الحال.
{أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة، والمدهن والمداهن: المنافق.
كذا قال الزجاج وغيره.
وقال عطاء وغيره: هو الكذاب.
وقال مقاتل بن سليمان، وقتادة: مدهنون: كافرون، كما في قوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] وقال الضحاك: مدهنون.
معرضون، وقال مجاهد: ممالئون للكفار على الكفر، وقال أبو كيسان: المدهن: الذي لا يعقل حق الله عليه، ويدفعه بالعلل.
والأوّل أولى؛ لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه؛ كأنه يشبه الدهن في سهولته.
قال المؤرج: المدهن المنافق الذي يلين جانبه؛ ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة: التكذيب، والكفر، والنفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال في الكشاف: مدهنون: أي: متهاونون به كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به انتهى.
قال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين؛ لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة، وترك الجدّ: كما جعل التقريد: وهو نزع القراد عبارة عن ذلك، ويؤيد ما ذكره قول أبي قيس بن الأسلت:
الَحزْمُ والقُوّة خُيرٌ مِنَ ال ** إدهان والفهَّة والهَاعِ

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} في الكلام مضاف محذوف، كما حكاه الواحدي عن المفسرين، أي: تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله، فتضعون التكذيب موضع الشكر.
وقال الهيثم: إن أزدشنوءة يقولون: ما رزق فلان، أي: ما شكر؛ وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر.
ووجه التعبير بالرزق عن الشكر أن الشكر يفيض زيادة الرزق، فيكون الشكر رزقًا تعبيرًا بالسبب عن المسبب، ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله، وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا.
قال الأزهري: معنى الآية: وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرّزاق.
وقرأ عليّ وابن عباس: {وتجعلون شكركم} وقرأ الجمهور {أنكم تكذبون} بالتشديد من التكذيب، وقرأ عليّ، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف من الكذب {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} أي: فهلا إذا بلغت الروح، أو النفس الحلقوم عند الموت، ولم يتقدّم لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم عندهم إذا جاءوا بمثل هذه العبارة، ومنه قول حاتم طي:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر

{وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم.
قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه، والمعنى: أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه، ولا يستطيعون شيئًا ينفعه، أو يخفف عنه ما هو فيه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بالعلم، والقدرة، والرؤية، وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم {ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} أي: لا تدركون ذلك؛ لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا} يقال: دان السلطان رعيته: إذا ساسهم واستعبدهم.
قال الفراء: دنته: ملكته، وأنشد للحطيئة:
لقد دنت أمر بنيك حتى ** تركتهم أدق من الطحين

أي: ملكت، ويقال: دانه إذا أذله واستعبده، وقيل: معنى {مدينين}: محاسبين، وقيل: مجزيين، ومنه قول الشاعر:
ولم يبق سوى العدوا ** ن دناهم كما دانوا

والمعنى الأوّل ألصق بمعنى الآية، أي: فهلا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين ترجعونها، أي: النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرّها الذي كانت فيه {إِن كُنتُمْ صادقين} ولن ترجعوها، فبطل زعمكم إنكم غير مربوبين ولا مملوكين، والعامل في قوله: {إِذَا بَلَغَتِ} هو قوله: {تَرْجِعُونَهَا}، و(لولا) الثانية تأكيد للأولى قال الفراء: وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد.
ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين} أي: السابقين من الثلاثة الأصناف المتقدّم تفصيل أحوالهم {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة وَنَعِيم} قرأ الجمهور {روح} بفتح الراء، ومعناه: الراحة من الدنيا، والاستراحة من أحوالها.
وقال الحسن: الروح: الرحمة.
وقال مجاهد: الروح: الفرح.
وقرأ ابن عباس، وعائشة، والحسن، وقتادة، ونصر بن عاصم، والجحدري: {فروح} بضم الراء، ورويت هذه القراءة عن يعقوب، قيل: ومعنى هذه القراءة: الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، والريحان: الرزق في الجنة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومقاتل.
قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي: رزقه، ومنه قول النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ** ورحمته وسماء درر

وقال قتادة: إنه الجنة. وقال الضحاك: هو الرحمة. وقال الحسن: هو الريحان المعروف الذي يشمّ. قال قتادة، والربيع بن خيثم: هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث، وكذا قال أبو الجوزاء، وأبو العالية، ومعنى {وجنة نعيم} أنها ذات تنعم، وارتفاع روح، وما بعده على الابتداء، والخبر محذوف أي: فله روح.
{وَأَمَّا إِن كَانَ} ذلك المتوفى {مِنْ أصحاب اليمين} وقد تقدّم ذكرهم، وتفصيل أحوالهم، وما أعدّه الله لهم من الجزاء {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} أي: لست ترى فيهم إلاّ ما تحبّ من السلامة، فلا تهتم بهم، فإنه يسلمون من عذاب الله، وقيل: المعنى: سلام لك منهم أي: أنت سالم من الاغتمام بهم، وقيل المعنى: إنهم يدعون لك، ويسلمون عليك، وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم يحيى بالسلام إكرامًا، وقيل: هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض، وقيل المعنى: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين.
{وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} أي: المكذبين بالبعث الضالين عن الهدى، وهم أصحاب الشمال المتقدّم ذكرهم، وتفصيل أحوالهم.
{فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ} أي: فله نزل يعدّ لنزوله من حميم، وهو الماء الذي قد تناهت حرارته، وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} يقال: أصلاه النار وصلاه، أي: إذا جعله في النار، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أو إلى المكان.
قال المبرد: وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف، والتقدير: مهما يكن من شيء فروح... إلخ، وقال الأخفش: إن الفاء في المواضع الثلاثة هي جواب أما، وجواب حرف الشرط.
قرأ الجمهور: {وتصلية} بالرفع عطفًا على {فنزل}.
وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفًا على {حميم} أي: فنزل من حميم، ومن تصلية جحيم {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة، أو إلى المذكور قريبًا من أحوال المتفرّقين لهو حق اليقين، أي: محض اليقين وخالصه، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه.
قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، هذا عند الكوفيين وجوّزوا ذلك؛ لاختلاف اللفظ؛ وأما البصريون، فيجعلون المضاف إليه محذوفًا، والتقدير: حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين، والفاء في: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: نزهه عما لا يليق بشأنه، والباء متعلقة بمحذوف، أي: فسبح ملتبسًا باسم ربك للتبرك به، وقيل المعنى: فصلّ بذكر ربك، وقيل: الباء زائدة، والاسم بمعنى الذات.
وقيل: هي للتعدية؛ لأن سبح يتعدّى بنفسه تارة، ويتعدّى بالحرف أخرى، والأوّل أولى.
وقد أخرج النسائي، وابن جرير، ومحمد بن نصر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرّق في السنين، وفي لفظ: ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجومًا، ثم قرأ: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم}.